التحدى الروحى - لنيافة الانبا موسى
1- مقدمة
لاشك أن هناك - مع مطلع القرن الحادى والعشرين - التحدى الروحى، الذى يواجه، وسوف يواجه بصورة أكبر، شبابنا المبارك، وذلك بتأثير عدة عوامل قديمة وجديدة مثل:
أولاً : كوامن وشهوات الطبيعة البشرية :
التى تجنح إلى حب الذات، والجسد، والماديات.
ثانياً : ضغطات واغراءات عدو الخير :
الذى يجول حولنا ملتمساً أن يبتلعنا.
ثالثاً : عثرات العالم المعاصر :
التى تتزايد تنوعاً وتأثيراً، وهذا ما سوف نركز عليه فى هذا المقال. أن هذه العثرات تزايدت أخيراً للأسباب التالية:
1- الشاشة الكبيرة : وما تقدمه من أفلام يغلب عليها طابع الغريزة، فهى تتحدث عن ثلاثة غرائز هامة فى الإنسان: الجنس والمقاتلة وحب الاستطلاع، وهذا ما تدور حوله أغلب الأفلام، وبخاصة الجنس والمقاتلة... وما يتبع ذلك من إثارة جسدية أو قبول لثقافة العنف التى بدأت تسود هذه الأيام فى كل مكان.
2- الشاشة الصغيرة : والتى بدأت تفلت من رقابة وضبط أجهزة الدين والدولة والتربية المصرية، لتتخللها برامج ومسلسلات أجنبية الطابع، والهوية، والتوجهات.. وبخاصة بعد أن تعددت القنوات، ووصلنا البث القادم من الأقمار السابحة فى الفضاء، حيث يتلقى شبابنا تقاليد جديدة، واتجاهات سلبية، وعثرات لا حصر لها مثل أفلام البورنو المنحرفة (Pornography).
3 - الشاشة الكمبيوترية : وهى أخطرهم على الإطلاق، فعلى شاشة الانترنيت يستطيع الشباب أن يلتقى بكل الانحرافات على أشكالها، وبكافة أنواع الإثارة الفكرية والقيمية والجسدية.. وسبب الخطورة أنه لا رقابة على الشباب سواء من الدولة (فى التليفزيون الوطنى)، أو من الأسرة (متابعة الوالدين لما يراه الشباب).. ويبقى الضمير والإرادة الإنسانية كرقيب وحيد نهائى أمام شاشة الكومبيوتر، وما يمكن أن يشاهده الشباب عليها.
4- التكدس السكانى : الذى بدأ يحدث اختلاطاً خطيراً وخلطاً مفسداً فى حياة الأجيال الصاعدة، بل وحتى الكبار والمتزوجين. ففى شقة واحدة يمكن أن تسكن أسرات، كل أسرة فى حجرة، مختلط الأجيال، ويختلط الشباب بطريقة غاية فى الخطورة، سواء حينما يغزو الاختلاط العاطفة، ثم الجسد، ويتجاهل العقل، ثم الروح.. أى أن يسقط الشباب فى علاقات عاطفية سلبية، تقودهم إلى تورطات جسدية، ثم يغيب عنها العقل السليم الذى كان ينبغى أن يردعهم عن الانغماس فى ذلك، ويغيب عنهم الضمير والحسّ الروحى والانتماء الدينى، فيتوهون ويضيعون، ربما إلى الأبد!!
5- سهولة المواصلات : فلدينا الآن السيارة: التى تخلط شباب المحافظات معاً، فى رحلات إلى السواحل مثلاً، والطائرة: التى تخلط شبابنا المصرى بشباب العالم فى الخارج، شرقاً وغرباً، حيث القيم المختلفة، والحرية الجنسية المنفلتة، التى لم تقدم لهم سوى دمار الفرد والأسرة والمجتمع، كما نلحظ فى كل يوم، وحيث العنف والتوتر نتيجة منافسات وصراعات لقمة العيش وتحقيق الذات، وحيث الأسرة المنهارة تماماً فى عالم أهمل المسيح، وألغى الروح!!
6- أنماط السلوك الوافدة : وها نحن نرى بعضاً من شبابنا يلجأ إلى صالات الرقص والديسكو والموسيقى الصاخبة، أو إلى عبادة الشيطان بطقوسها المدمرة!!
ولاشك أن فراغ الروح، وسطحية الفكر، وتدنى الوجدان، وتفكك الأسرة، وضياع الرؤيا.. أسباب خطيرة تجعل من شبابنا فريسة لهذه الآفات الفتاكة. والمحزن أن شباب الكنيسة يخشون من الشهادة الأمينة، وينساقون وراء بعض من هذه السلوكيات، فى مناسبات الزواج والميلاد، فيذهبون إلى هذه الصالات، ويعرفون الكثير فيما يدمرّ.
7- التدخين والمخدرات والخمور : وهى آفات لم يعد هناك شك فى تدميرها الكامل للإنسان، فالتدخين يدمر الرئتين والقلب، والمخدرات تدمر العقل، والخمور تدمر الكلى والكبد.. ولكن شبابنا حينما لا يكون متأصلاً روحياً، وواعياً بمخاطر هذه الآفات، سرعان ما ينغمس فيها، ليندم بعد الأوان.
إن ضعف التكوين السليم لشبابنا، فى سن مبكرة، فى المرحلتين الإعدادية والثانوية، هو المسئول الأول عن انغماس شبابنا فى هذه الآفات، فضعف التكوين المتكامل لشخصيته: روحياً وفكرياً ونفسياً وجسدياً واجتماعياً، هو الذى يجعله ينضم إلى شلة منحرفة، أو يسير وراء قائد فاسد، أو يتعلم من أصدقاء أشرار، أو يقلد آخرين بلا وعى، أو يفقد استقلاليته وقراره، أو يهرب من مشكلاته الشخصية أو الدراسية أو الأسرية، باللجوء إلى هذه الآفات الخطيرة.
8- غريزة القطيع : إذ لم يعد لدينا - كما نأمل - روح الاستقلال المعرفى والوجدانى لدى الشباب، فيقف فى وجه العالم والشيطان والصديق المنحرف، ويرفض الانسياق وراءه فى انقياد أعمى، وهكذا يتصرف مطيعاً للدوافع العامة، كالتقليد والاستهواء، فيقلد الآخرين دون دراسة لما يعملون، ولنتائج سلوكياتهم، أو يستهويه التيار العام السائد فى المجتمع، سواء فى أخطاء العادات الذميمة فى الكلام: الشتيمة، والقسم، والوشاية، والنميمة، والإدانة.. أو عادات جنسية سيئة: ذاتية أو مع آخرين.. أو شلل العنف والانحراف فى البلطجة أو السرقة أو مجموعات الإدمان والتدخين والخمور.. الخ.
إن الارتفاع بمستوى شبابنا من الجسد والغريزة إلى العقل والروح، يعطيهم صلابة المقاومة، وروح الإفراز والتمييز، بين الغث والسمين، فلا يسقطون فى براثن إبليس، أو الأصدقاء الأشرار، أو العادات الذميمة.
كيف نؤصل شبابنا روحياً؟
يحتاج شبابنا المبارك إلى أن يعرف المسيح الفادى المخلص، صديق العمر، رفيق الطريق، حتى إلى الملكوت الأبدى. وبعد أن يعرفه عقلياً، يحبه ويرتبط به وجدانياً، ثم يختبره فى حياته اليومية، وأخيراً يتحد به إلى الأبد.
معرفة المسيح - إذن - تتحرك على أربعة مستويات أو مراحل:
1- المعرفة العقلية. 2- المعرفة الوجدانية.
3- المعرفة الاختبارية. 4- المعرفة الاتحادية.
أولاً: المعرفة العقلية
يحتاج شبابنا أن يعرف كل شئ عن الرب يسوع، كلمة الله، الإله المتجسد، والفادى المحب، ابن الله وابن الإنسان، مخلص الجسد، وماذا يمكن أن يفعله فى حياتنا إذاً:
يغفر لنا كل خطايانا.. بالتوبة والاعتراف.
ويطهرنا داخلياً.. بالتناول والجهاد الروحى.
ويثبت فينا.. بالافخارستيا والصلاة وقراءة كلمة الله والتواجد فى الحياة الكنسية.
ويقدسنا.. بالميرون وبعمل روح الله المستمر فى حياتنا لنكون أوان مقدسة يسكن فيها.
ويحينا حياة أبدية.. حينما نتمم جهادنا ونذهب إليه، فتدخل أنفسنا الفردوس، إلى يوم القيامة، حيث نقوم بأجساد نورانية وندخل إلى الملكوت الأبدى.
وهذه المعلومات الهامة يجب أن تصل إلى شبابنا المحبوب. من خلال قنوات كثيرة مثل:
العظات فى القداسات واجتماعات الشباب.
الكتب والنبذات والمجلات.
المسابقات الدراسية فى الإنجيل واللاهوت والعقيدة والطقس والتاريخ والبحوث التى يقوم بها الشباب.
فرص الخدمة الفردية والافتقاد.
فرص الاعتراف ورعاية الأب الكاهن.
فرص الزيارات المنزلية وقراءة الإنجيل فى البيت وتقديم معلومات مركزة بسيطة.
ثانياً: المعرفة الوجدانية
والمقصود بها تكوين علاقة حب ومشاعر مع رب المجد يسوع من خلال أنواع الصلوات المختلفة مثل:
1- صلوات الاجبية : حيث نشبع بالمزامير ونتعظ منها، ونتتبع الأحداث اليومية مثل: القيامة فى باكر، وحلول الروح القدس فى الثالثة، والصلب فى السادسة، وموت المسيح فى التاسعة، وإنزاله عن الصليب فى الغروب، ودفنه فى النوم، ومجيئه الثانى فى نصف الليل.
2- الصلوات الليتورجية : فالقداس هو قمة الشبع الروحى، وفيه نتحد بالرب يسوع رأس الكنيسة، وبالقديسين الحاضرين معنا، وباخوتنا المؤمنين الذين يتناولون معنا من نفس الجسد الواحد، والقربانة الواحدة.. وفى القداس سنلتقى بالله فى رحلة نزوله إلينا، واتحاده بنا، فمن صلاة الصلح، إلى مستحق وعادل، إلى قدوس قدوس، إلى الفداء والتجسد وعمل الروح القدس، إلى حلول روح الله وتحويل الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، إلى عمانوئيل فى وسطنا فنطلب منه كل ما نريد فى الأواشى، ونصلى من أجل الراقدين فى المجمع والترحيم، ثم ندخل إلى صلوات القسمة، والتناول.
3- الصلوات السهمية: مثل صلاة "ياربى يسوع المسيح ابن الله ارحمنى فأنى خاطئ" أو "اللهم التفت إلى معونتى ياربى أسرع وأعنى".. نكررها كثيراً عشرات المرات... فتستقر فى قلوبنا، وتقفز إلى ألسنتنا، وتحفظنا من الوسط المحيط، وتعدل مسارنا كلما انحرفنا، وتشيع السكينة والهدوء فى أعماقنا.
4- الصلوات الحرة : وفيها تتحدث النفس مع الله ببساطة وتلقائية، حسب مقتضيات الظروف اليومية، من حيرة، إلى قلق، إلى خوف، إلى فرح، إلى سلام، إلى احتياج، إلى سقوط، إلى نصرة.. تتحدث النفس عما يحتاج فيها من مشاعر من أى نوع.. ليدخل الله إلى صميم الحياة، وعمق الكيان، ويملأ النفس صفاءً وهدوءاً وإثماراً.
ثالثاً:المعرفة الاختبارية
وهذا النوع من المعرفة غاية فى الأهمية، حيث يجعل من معرفتنا للسيد المسيح، ليس مجرد معلومات لاهوتية وحقائق إيمانية، وحتى ليس مجرد مشاعر وجدانية وعاطفة مقدسة، بل سلوكيات ومواقف فى الحياة اليومية. وهكذا تنتقل معرفتنا للمسيح من مستوى العقل والوجدان إلى مستوى السلوك والإيمان العملى.
وما أكثر مجالات الاختبار التى يمكننا فيها أن نعرف رب المجد يسوع عن قرب، وهذه بعض أمثلة:
1- التخلص من الخطايا : كلما جاهدنا ساندتنا نعمة المسيح فى التخلص من الخطايا المختلفة: الأفكار السلبية - الحواس المنحرفة - المشاعر غير الودية - العلاقات التى لا ترضى الرب - العادات الذميمة - أخطاء الفكر والعقل والقول.. الخ.
2- اكتساب ثمار الروح : فعندما يعمل فينا روح الله القدوس يبدأ بأن يعطينا بعضاً من ثماره: المحبة - الفرح - السلام - طول الأناة - اللطف - الصلاح - الإيمان - الوداعة - التعفف (غل 22:5). فالمسيحية لا تتوقف عند تخليصنا من الشرور، بل تعطينا - من قبل الرب، وبعمل نعمته - فضائل روحية كثيرة.
3- التصرف فى مواقف الحياة : فالإنسان المختبر يتصرف فى مواقف الحياة بصورة مختلفة: الحزن - الفرح - المشاكل - القلق - المخاوف - العلاقات مع الناس - المستقبل - المادة - القرارات المصيرية - مشاكل العمل - الزواج - الأبناء.. الخ. والإنسان المؤمن يختبر الرب فى كل هذه المواقف، مصلياً، طالباً إرشاد الله، مستعيناً بأبيه الروحى، مؤمناً أن "كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله" (رو 28:8). ولاشك أن دراسة شخصيات الكتاب المقدس، وسير الآباء القديسين، تعطينا خبرات لا حصر لها، وكأنها أعمار تضاف على أعمارنا، إذ ننظر إلى "نهاية سيرتهم فنتمثل بإيمانهم" (عب 7:13).
رابعاً:المعرفة الاتحادية
وهنا نصل إلى نهاية المنتهى، حينما نتحد بالله إلى الأبد فى أورشليم السمائية، بعد أن نتغير إلى أجساد روحانية مشابهة لجسده الممجد بعد القيامة، وبعد أن نستعيد نهائياً الصورة المقدسة التى خلقنا عليها. لكن هذه المعرفة الاتحادية فى السماء، نأخذ عربونها هنا على الأرض، وذلك حينما نتناول جسد الرب ودمه الأقدسين "فنثبت فيه، وهو يثبت فينا" (يو 56:6). فنحن فى الافخارستيا نتحد بالرب، وبالقديسين، وببعضنا البعض.. وهكذا يتم فينا قول الرب: "أنا فيهم وأنت فىّ، ليكونوا مكملين إلى واحد" (يو 23:17).. "أنا فى أبى، وأنتم فىّ، وأنا فيكم" (يو 20:14).. "أن أحبنى أحد يحفظ كلامى، ويحبه أبى، وإليه نـأتى، وعنده نصنع منزلاً" (يو 23:14).
نعم.. سنبقى بشراً، ولن نتحول إلى آلهه، ولكن الله سيسكن فينا كما تسكن الشمس فى حجرة، وكما يسكن الهواء فى صدر إنسان.. أنه الفعل الإلهى فى البشر، والمواهب المفاضة على المؤمنين به، الذين دعاهم أولاده.. "انظروا أية محبة أعطانا الآب، حتى ندعى أبناء الله" (1يو 1:3).
فليعطنا الرب إمكانية خدمة أولاده، وتأصيلهم فى الحياة الروحية، تمهيداً لخلود الملكوت.