الشباب والأنتماء - لنيافة الانبا موسى
الانتماء احتياج أساسى للإنسان، لا سيما فى فترة الشباب، التى فيها تتكون ملامح الشخصية، وتتحدد توجهات الشباب المستقبلية. ولكن المؤسف أن البعض يتصور الانتماء نوعاً من "الصفقات"، التى فيها يتغلب الأخذ على العطاء... فيصير الانتماء إضافة إلى الذات وقيمة أنانية فردية أو طائفية أو حتى جماعية، لهذا يقول بعض الشباب: كيف انتمى إلى مصر، وأنا
لا أنال كل حقوقى، لا أجد فرصة عمل جيدة، ولا فرصة سكن، ولا فرصة زواج.
الحقيقة أن هذا التفكير غير سليم، فالانتماء أساساً احتياج إنسانى، متعدد الزوايا، وهو مكسب بحد ذاته.. كيف؟
أولاً : الإنتماء إحتياج إنسانى :
فعلاً، فهو جزء أساسى من الطبيعة الإنسانية، وهو احتياج متعدد الزوايا لأنه:
1- إحتياج نفسى :
فإن كان الجهاز التنفسى للإنسان غرائز واحتياجات نفسية موروثة، مع عواطف وعادات واتجاهات مكتسبة، يكون الإنتماء أحد الحاجات النفسية الأساسية، التى بدونها لا تستقيم النفس، ولا يسعد الإنسان. وكما يحتاج الإنسان نفسياً إلى الأمن، والحب، والتقدير، والنجاح، والتفرد، والمرجعية، يحتاج إلى الإنتماء.
يستحيل أن يسعد الإنسان فى وضع "اللامنتمى"، إذ يحس أنه فى حالة فراغ، ووحشة، وعزلة رهيبة، وكأنه معزول فى جزيرة موحشة، وكل ما حوله ظلام ورعب ووحوش! وهو بذلك يقترب من إحساس بعض الوجوديين الملحدين الذين كانوا يقولون: "الجحيم هو الآخر"، فهم يعيشون وحشة الذات وعزلة الأنا ورفض الآخر!! ويتصورون أن الآخرين يعطلون تقدمهم، ويعرقلون نجاحهم، وإمكانية تحقيق ذواتهم.. مع أن الحقيقة أننى لا أكتمل إلا بالآخر، فهو عون وسند، وفيه يتحقق الحب، والتعلم، والاقتداء، ومن خلاله تتكون الأسرة، والجماعة، والمجتمع.
إن فكر المسيح له المجد، يدعونا إلى العطاء، مؤكداً أنه "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 35:20). وهذه حقيقة اختباريه، عملية وعلمية، وليست مجرد وصية دينية. فالجحيم الحقيقى هو "الانحصار فى الذات"، وقديماً قال الآباء: "إن المشيئة الذاتية هى الجحيم"، فالإنسان الأنانى دائماً كاره ومكروه، أما الإنسان المعطاء فهو دائماً محب ومحبوب.. ومن هنا تبدأ السعادة، والسلام النفسى.
2- إحتياج إجتماعى :
فالانتماء يشبع هذه الحاجة أيضاً، وأقصد الحاجة إلى الآخر، وإلى الاحتكاك والتفاعل، والتعاون والتناسق، والاتحاد والشركة. فالإنسان أصلاً "مخلوق إجتماعى"، وهو يحيا السعادة من خلال انتمائه للجماعة، أخذاً وعطاءً، وبخاصة كلما زاد عطاؤه عن أخذه. الإنسان المنحصر فى ذاته يحيا جحيم الرغبات الجامحة، والطموحات المحققة وغير المحققة، والعداء مع كل من حوله، وكل من يقف فى طريق أنانيته. أما الإنسان المحب للآخرين، والذى انسكبت فى قلبه محبة الله بالروح القدس (رو 5:5)، فهو دائم الفرح والسلام، دائم العطاء والتفاعل، يحب الجميع، ويحبه الجميع، يسعد الآخرين بحبه، ويسعد هو بحب الآخرين، وشعاره المفضل فى الحياة هو: "كن معطاء تعيش سعيداً".
الإنسان مخلوق إجتماعى، فمن الزواج، إلى الأسرة، إلى الكنيسة، إلى الوطن، إلى البشرية... يحقق انتماءه فى دوائر متتالية، تتسع شيئاً فشيئاً، قدر ما اتسعت جدران قلبه، بسبب سكيب الحب الإلهى فى داخله!
ولعل لنا فى الأنبا بولا - أول السواح - نموذجاً رائعاً فى الانتماء، وهو الراهب المتوحد لعشرات السنين، لا يرى إنساناً، ولا يراه إنسان، فحينما ألتقى به القديس الأنبا أنطونيوس وجدناه يسأله عن أمرين: كفاح القديس أثناسيوس ضد الآريوسية، وذلك نتيجة انتمائه للكنيسة المقدسة، ومدى انتظام فيضان النيل، نتيجة انتمائه للوطن الأم. أما وجدانياً فالمتوحد اتحد بالله، ومن خلال هذا الاتحاد المقدس، يتحد ببقية أعضاء الجسد المقدس، أى الكنيسة، وبقية مواطنيه فى الوطن بل حتى أخوته فى الجنس البشرى عموماً.
كم بالحرى إذن ينبغى أن يكون الخادم والمواطن العادى، فى ضرورة الارتباط بأخوته، والنمو فى المشاركة والتفاعل؟
3- إحتياج روحى :
والانتماء أيضاً احتياج روحى إذ كيف أستطيع أن أمارس حياتى الروحية بدون "الآخر"؟ الآخر فرصة حب، وتعاون، وتعلم، وقدوة، واحتكاك، وتلمذة، واكتساب فضائل، ونمو روحى... فحتى لو ضايقنى الآخر، فهنـا أتعلم الحب!!. فالحب البشرى هو الحب "بسبب"، أما الحب الإلهى فهو الحب "بالرغم من" حتى الأعداء يعلموننى الصفح والحب، حينما أخذ فى أحشائى نوعية الحب الإلهى القادر على الصفح والعطاء.
إن الرب قبل أن يخلق حواء، أشعر آدم بالحاجة إلى "الآخر"، من خلال مرور الحيوانات والطيور أمامه، إذ وجد كل نوع منها ذكراً وأنثى، "وأما لنفسه لم يجد معيناً نظيره" (تك 20:2)، إذ شعر آدم باحتياجه هذا، خلق الرب حواء من إحدى ضلوعه، من منطقة الوسط، حتى لا تتسيد عليه أو تستعبد له، بل تكون "نظيراً" مساوياً، قريباً من القلب ومحبوباً. ومن خلال هذا الاتحاد الزيجى المقدس، يكون العطاء للآخر، وعطاء الزوجين للأولاد، والمجتمع، وللكنيسة.. امتداداً للجنس البشرى، وإضافة إلى عدد القديسين فى الملكوت.
لاشك أن الاحتكاك بالآخر هو طريق النمو الروحى، واكتساب الفضائل، واتحاد الحب، وفرصة الخدمة.
ثانياً: الإنتماء... دوائر:
ربما يسأل الشباب: ما هى دوائر الانتماء فى حياتنا، إذا كان الانتماء هكذا مهما وهكذا مفرحاً؟
هناك دوائر متعددة، تتسع شيئاً فشيئاً فتخلق من الإنسان، إنساناً كونياً أى أن يتسع قلبه ليشمل الكون بأسره، لأنه أختبر الحب اللانهائى، الذى هو الله، وهذه بعض الدوائر:
1- دائرة الأسرة :
أضيق الدوائر، ولكنها مهمة، فالإنسان المنتمى إلى أسرته سيحب والديه وأخوته، ولن يفعل ما يشين أسرته، أو يعوق مسيرة أخوته.
تصوروا عضواً فى الأسرة وقد انحرف أو فسد.. ألا يؤذى الأسرة كلها فى سمعتها! ولو أن فتاة انحرفت مثلاً، ألا تعطل زواج أخوتها وأخواتها، وبالعكس، فالعضو المسيحى الصادق فى مسيحيته، والمخلص فى انتمائه، سيفكر فى أسرته قبل نفسه، لأنه إنسان غير أنانى، يعطى قبل أن يأخذ، وحتى دون أن يأخذ.
2- دائرة الطائفة :
فهذا أرثوذكسى مقتنع بعقيدة كنيسته، يحيا طقوسها ويشبع بألحانها، ويتشفع بقديسيها، ويمارس حياتها، ويحس من خلال الأفخارستيا أنه فى شركة حية، ذات أبعاد رباعية: شركة مع الله، وشركة مع السمائيين، وشركة مع أخوته فى الكنيسة، وشركة مع أخوته فى البشرية، إذ يصلى من أجل العالم كله.
والكنيسة علمتنا أن نكون متسعين حتى للغريب، واليتيم، والأرملة، والضعيف، وأن نصلى من أجل الرئيس، والوزراء، والزروع، والثمار، والمياه، والأهوية، والنيل... الخ.
لذلك فالإنسان يجب أن يحس بانتمائه إلى كنيسته القبطية الأرثوذكسية، بماضيها وحاضرها ومستقبلها، كعضو حىّ فيها.
3- دائرة المسيحية :
فالأرثوذكسى الصادق يحب أخوته المسيحيين فى الطوائف الأخرى، كالكاثوليك والإنجيليين، فى صدق يبرهن على سلامة مسيحيته. فالسيد المسيح يشتاق أن نتحد فى الإيمان، وهذا لن يتم إلا من خلال المحبة، والحوار اللاهوتى، والاحترام المتبادل، وحتى إذا رفض الإنسان المسيحى الهراطقة غير المسيحيين من أمثال السبتيين وشهود يهوه، إلا أنه لا يكرههم بل يرجو لهم التوبة، والعودة إلى حظيرة الإيمان المسيحى السليم. أن يتمسك بمسيحيته وأرثوذكسيته، دون أن يدفعه التمسك إلى التعصب أو احتقار الآخرين أو ضيق القلب.
4- الانتماء للوطن :
ومن منا لا يفخر بانتمائه لمصر؟! إن قلوبنا تهتز فرحاً حينما نسمع نشيداً لمصر، أو حينما نسمع عن انتصارمصرى حققه أبناء مصر. سواء فى ميادين السياسة أو العلم أو الفن أو الأدب أو الرياضة وغير ذلك...
فما أسعدنا بتاريخنا، وحضارتنا، وآثارنا، وروحنا المتميزة.
نعم
ما أسعدنا بمصر... التى باركها الرب منذ القديم ووطأتها أقدام المسيح، والقديسين، والأنبياء...
كيف لا نسعد بالانتماء لها ؟ وكيف لا نتقدم لخدمتها، ونرفع رايتها عالياً فى كل المحافل الدولية؟
وهنا أهمس فى أذنك يا أخى الشاب، ويا أختى الشابة: عل يشارك كل منكما فى واجبه الوطنى بالعمل الجاد، والأمانة المسيحية، والمواطنة الصالحة، وهل يقوم كل منكما بدوره الوطنى فى تقديم الفكر والرأى والنموذج، سواء فى مجاله الصغير، أو فى المجالات العامة كالانتخابات؟
5- الانتماء للبشرية :
هل من المعقول أن نرى الشباب الفلسطينى يصرخ من الاحتلال الإسرائيلى المتعسف، ولا نعيش معه أحاسيسه؟! شباب يطالب بحقه فى الحياة، والوطن، والكرامة الإنسانية، وهى أبسط حقوق الإنسان، ويصرخ فى وجه العدو الذى أغتصب أرضه وهويته بالسلاح، ولا يريد أن يسمع لصوت الحق والضمير، وكيف لا أحس بالتعاطف معه، والمسيحية ضمير وحق؟!
والسود المضطهدون فى جنوب أفريقيا، لمجرد أنهم يطلبون المساواة بين البشر، كيف لا نحس بقضيتهم؟! وكيف لا نصرخ فى وجوه البيض، أنتم قساة القلب، وما تمارسونه ليس من المسيحية، وحتى ليس من الإنسانية.
والمطحونين فى الأرض بالجفاف والمجاعة، والظلم والقهر، كيف لا نحس بهم، والكتاب يقول: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم، والمذلين كأنكم أنتم أيضاً فى الجسد" (عب 3:13).
إن المسيحية الحقيقية تلتزم بقضايا المجتمع، وهى ضمير العالم، والكنيسة جسد المسيح المقدس، تحتضن كل البشرية، وتجتهد فى نشر المحبة والعدالة بين الناس.
ثالثاً: مقومات الانتماء :
يحتاج الإنسان الراغب فى الانتماء إلى المقومات التالية:
1- الحب الإلهى :
فلا انتماء بدون حب!! الحب هو المعبر إلى الآخر!! وهو وسيلة الاتحاد داخل الأسرة، وفى الجماعة الكنسية، والجماعة الوطنية، والبشرية عموماً.. الحب يعطى بسخاء، ويهب دون انتظار المقابل، ويصفح حتى عن الأعداء، ويتحد بالآخرين ويتواصل معهم فى كل ظروف حياتهم "فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين" (رو 15:12).
2- الوعى :
فلا انتماء بدون وعى.. الإنسان الواعى بذاته، وبالآخر، وبالرب، وبالوطن.. هو الإنسان القادر على ممارسة الانتماء. نحتاج أن نتواصل على كل المستويات: داخل الأسرة والكنيسة والمجتمع.. نحتاج أن نتثقف وندرس كل تيارات الفكر المعاصر، وظروف المجتمعات المختلفة، وهموم الإنسان فى كل مكان نحتاج إلى ذهن مفتوح وقلب مفتوح، ليمكننا أن نتفاعل مع الآخرين عطاء وأخذاً.
3- المرونة القوية :
فالإنسان المنتمى سيحتك مع آخرين، ربما لا يعيشون قيمه ومبادئه وإيمانه.. ولكنه لابد وأن يتعامل معهم... إذن فلتكن لديه المرونة فى الله، التى تمكنه من الإفراز والتمييز، فى المواقف المختلفة، وهكذا يسير مع الآخرين حينما يكون الاتجاه سليم، ويرجع سائراً ضد التيار، حينما يكون الاتجاه سقيماً. إنه كالسمكة الحية، القادرة على اختيار الاتجاه الذى يروق لها، سواء مع التيار أو ضده، وليس كالحوت الميت، الذى يسير مع التيار إلى أن يقذفه البحر إلى الشاطئ.
4- الإسهام الإيجابى :
فالمسيحية أبداً ما كانت ديناً سلبياً، يعزلنا عن حركة الحياة، وتيارات المجتمع.. بل هى قوة ديناميكية قادرة على التفاعل الخلاق، والعطاء الإيجابى، لهذا فالمسيحى الحقيقى يتحرك تجاه أخوته فى الوطن، بحب صادق، ويشترك فى نشاطات المدرسة والكلية والاتحاد والنقابة والانتخابات والأحزاب... مقدماً صورة طيبة ومؤثرة، للإنسان المسيحى، الصادق والمعطاء.
رابعاً: فوائد الانتماء :
لاشك أن الانتماء حينما يسود حياتنا، يعطينا بركات كثيرة على المستويين الفردى والجماعى:
1- الاستقرار النفسى :
إذ أن الانتماء - كما ذكرنا آنفا - هو احتياج نفسى، ضمن الاحتياجات النفسية المختلفة: كالحاجة إلى الحب والأمن والتقدير والنجاح وتحقيق الذات.. الخ.
لذلك فالإنسان المنتمى يكون مستقراً من الناحية النفسية، لا يحس بالاغتراب، ولا يقلق من المشاكل، ولا تحدث له هجرة داخلية، إذ ينعزل عن الناس، ويسخط على كل شئ.
2- الإحساس بدور :
فالانتماء فرصة للمشاركة، والقيام بدور ما، سواء فى حياة الأسرة أو الكنيسة أو المجتمع أو العالم كله والكنيسة تدعونا: "صلوا من أجل خلاص العالم" لهذا فالإنسان المنتمى مشغول بدوائر تتسع إلى ما لا نهاية، ويجتهد أن يعمل شيئاً: كلمة، فعل محبة، نشر الخير، خدمة الآخرين،
تفكير للمستقبل، تطوير، إضافة، إسهامه... فهذه كلها تعطيه الإحساس بمعنى الحياة، وبأن له دوراً فيها.
3- الوحدة الوطنية :
التى يستحيل أن تبنى على أسس راسخة بغير انتماء. فالانتماء للوطن يعطينى إحساس الحب له، ولكل مؤسساته، ورجالاته، وطموحاته، ويشعرنى بمسئوليتى نحو همومه وآلامه، ويفتح قلبى على أخوتى فى الوطن، مسلمين ومسيحين دون تفرقة دينية، ودون تقوقع مريض، ودون
نفسية أقليات مريضة.. بل بالعكس فالإنسان المسيحى مطالب بأن ينشر الحب والخير فى كل مكان وزمان، ومع كل إنسان، بغض النظر عن فارق الدين أو العرق.