كيرلس الطفل الشهيد
كيرلس الطفل الشهيد
وُلد هذا القديس في إحدى قرى الصعيد في الجيل الثالث المسيحي من أمٍ مسيحية وأب وثني متزمت فتربى هذا الصبي في حضن أم تقية بارة
فحرصت علي تربيته حسب الديانة المسيحية بالتقوى والقناعة وحب الآخرين والتضحية من أجلهم .
وكان هذا الطفل حاد الذكاء رقيق المشاعر فاستوعب كل ما كانت أمه تثبته في قلبه الصغير حتى أصبح قوي الإيمان شديد الغيرة على
الدين المسيحي وكان كل ما تعلمه من أمه يُعلمه للأطفال الذين في مثل سنه وكم كان يفرح عندما يرى طفل حفظ الصلاة الربانية .
وكان ينمو كل يوم في النعمة والقامة والفضيلة وكان يتغذى كل يوم من أمه ليس الكثير فكما كانت أمه تهتم بالفقراء كذلك هو كان يأخذ
أكله من أمه ويخرج به يعطيه للأطفال الفقراء الذين في مثل سنه وهو يظل صائماً ويفرح بذلك .
وفي أحد الأيام إكتشفت أمه ما يفعله كيرلس ففرحت جداً لأن تربيتها قد نجحت وأثمرت ثماراً جيدةً وأخذت تُنمي فيه الفضيلة الجميلة التي
فيها يفضل الإنسان غيره عن نفسه ويفوز بسعادة الآخرين ويزداد في ملء الخير .
لم تدم هذه السعادة ولم يستمر هذا العطف والحنان الذي يغمر هذا الطفل ، لأن الله إفتقد هذه الأم الصالحة وتنيحت فجأةً وتركت هذا الصغير
الذي لا يتجاوز الثامنة من عمره وكم يحتاج الطفل لأمه في مثل هذه السن .
حزن كيرلس على أمه لأنه فقد الحنان والحضن الدافئ وفقد النصح والإرشاد لكن تعاليم الأم كانت قد إنغرست في قلبه وأتت بثمارها ،
سلم أمره للرب أب الأيتام وقاضي الأرامل وقال : لتكن إرادتك يارب والمر الذي تختاره لي خير من الشهد الذي أختاره أنا لنفسي وإبتدأ حياته
بعد نياحة أمه كما رسمت له في حياتها الصوم والصلاة والإهتمام بالفقراء والمساكين على قدر إستطاعته .
وحدث الذي لم يكن يتوقعه ، بعد مدة من نياحة والدته تزوج أبيه من إمرأةٍ أخرى وثنية لم تقل عنه في التزمت وكانت إمرأةً شريرة سليطة
اللسان فأذاقته الأمرين ، وكان والده يسمع لها وينقاد إلي كذبها ووثنيتها ويعاقبه عقاباً شديداً .
وكان كيرلس الطفل الهادئ الوديع يحتمل ولم يقل كلمة سوء في إمرأة أبيه ، بل كان يعتبر هذه الأمور حرباً من الشيطان عدو الخير بل كان
يفرح بالتأديب ويزداد في خدمتها وطاعتها لم تنظر هذه المرأة لهدوئه وطاعته لها بل كان يحركها الشيطان دائما لتقسو عليه .
وفي أحد الأيام سمعته وهو يصلي في غرفته ويتضرع إلي الله أن يقبل صلواته ويعمل في قلب أبيه وزوجته ليؤمنا بالرب يسوع خالق
السماء والأرض ويقول في صلاته يارب أنا صغير وضعيف ولا أستطيع أن أفعل شئ لكنه وعدك ، أنك لا ترفض طلب الملتجئين إليك الذين
يصرخون نحوك يارب. أنا صغير وأنت الذي قلت لا تحتقروا هؤلاء الأصاغر لأن لمثل هؤلاء يكون ملكوت السموات . يارب أنت الذي قدست
الطفولة بطفولتك وقدست الحياة بحياتك في وسطنا وقدست الموت بموتك من أجلنا يارب قدس حياتي وإسمع صلاتي وساعدني يارب لإحتمال
المشقات من أجل إسمك لكى أعيش لك أنت وحدك .
أسرعت هذه المرأة الخبيثة وأعلمت والده بما سمعت وأكدت له أن كيرلس نصراني يعبد يسوع الناصري المصلوب وزادته قسوةً بقولها كيف
يخالف أمرك وهو في هذه السن ؟ ماذا يفعل بعد أن يكبر ؟ فأوغرت قلب الرجل على إبنه وتحين الفرصة التي بها يحاسب إبنه.
كان عيد آلهة الأوثان فتكلم الأب مع إبنه قائلاً هيا بنا يا بني لنقدم ذبيحةً للآلهةِ ونقدم لهم الشكر والسجود على ما أولونه لنا من نعمٍ ، فقال له
الإبن بكل أدبٍ ووقار : يا أبي أنا لا أقدر أن أُقرب للآلهةِ لأنني أعبد ربي وإلهي ومخلصي يسوع المسيح الذي أحبنا ومات من أجلنا وهو الإله
الحقيقي خالق السماء والأرض .
غضب عليه أبوه وقال له كيف تخالف أمري وتخرج عن طاعتي ؟! قال له القديس : لا تغضب يا أبي لأنه يجب أن يُطاع الله أكثر
من الناس ، وسيدي يسوع المسيح قال : " من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني " ، كيف يا أبي أنت الرجل الحكيم العاقل تعبد الأوثان
وتسميها آلهةً وكيف تسجد للجماد وتقدم له ذبيحة ؟ أتعبد الشيطان يا أبي ؟ هذا لا يفعله طفل صغير مثلي . إني أُشير عليك يا أبي أن تؤمن بالرب
يسوع الإله الحقيقي .
ولما سمع الأب هذا الكلام من إبنه الطفل الصغير حقد عليه وطرده من بيته وقال له إن لم تطع كلامي وتترك عبادة ذلك المصلوب ل
ا تدخل بيتي ولا أعرفك ، فخرج كيرلس للشارع لا يعرف إلي أين يمضى لكنه كان يردد قول داود النبي: " أبي وأمي قد تركاني أما الرب فقبلني
يارب لا تتركني ولا تهملني لأني إتكلت عليك " ، وليس لي أحد في هذا العالم سواك أنت القائل : " إن نسيت الأم رضيعها أنا لا أنساكم " ، سيرني
يارب وأعن ضعفي .
جلس القديس تحت شجرةٍ ، ومن التعب غفلت عينيه ونام ، فسمع صوت يقول له : يا كيرلس لا تخف لأني معك ، أمامك أتعاب كثيرة
وضيقات فتشدد وكن رجلاً لأني سأكون معك وأقويك حتى تغلب أعداءك وستنال إكليل الشهادة وتشهد لي أمام جموعٍ كثيرة فاثبت وتقوى .
سمع الوالي بما حدث بين كيرلس ووالده وقد طرده من البيت فانتهز الفرصةَ وأرسل فأحضر القديس الذي لم يتجاوز عمره عشر سنوات ،
ولما وقف أمامه شرع يلاطفه بمعسول الكلام وفكر أنه طفل ، قطعة حلوة يمكن أن تثني عزمه عن الإيمان بالمسيح . قال له الوالي : إسمع يا إبني
أنا أحبك وأخاف عليك لأنك لا تحتمل الأتعاب ومازالت صغيراً تحتاج لرعاية أبيك ،لا أريد منك أكثر من أن تبخر للآلهةِ وأنا أدع أبوك أن يقبلك
في بيته وأنا أمنحك عطايا كثيرة وأنت يا إبني مازلت صغيراً والعمر أمامك فسيح فلا تشقي نفسك من الآن .
قال له القديس : إن طردي من بيت أبي لا يهمني لأني سأمضي إلي بيت أفسح منه وأجمل لأن الرب يسوع قال لي
" في بيت أبي منازل كثيرة " وأنا لا أخشى الموت لأنه بدء حياة أبدية جميلة، أتمنى من كل قلبي لك أنت وأبي وأمثالكم من عبده الأوثان أن
ترجعوا إلي الله وتتركوا عنكم عبادة الأوثان بالتوبة والرجوع إلي الله لكي يكون لكم نصيب في هذه الحياة التي لا يحصل عليها إلا الذين
يؤمنون بالرب يسوع رباً وإلهاً .
أراد الوالي أن يهددوه وأن يُرهبه لكي يخاف وينكر المسيح ، فأمر أن يُربط من يديه ورجليه وأن تُوقد نار ويُساق إليها كأنه عتيد أن
يُطرح فيها لترهيبه فلما لم يخف ولا إهتز من منظر النار ، أعادوه إلي الوالي فقال لهم القديس أسأتم إليَّ إذا أعدتوني ثانيةً وأخرتموني عن
الذهاب إلي إلهي لأنه ينتظرني .
بكى جميع من كانوا حاضرين عند سماع هذا الكلام من طفلٍ صغير فقال لهم القديس : كان الأجدر بكم أن تفرحوا بدلاً من أن تبكوا
وأن تشجعوني بدلاً من أن تُضعفوا عزيمتي ببكائكم ، إني أقول لكم كما قال سيدي وإلهي يسوع لبنات أورشليم :" لا تبكون علىَّ بل إبكوا على
أنفسكم وعلى أولادكم .. " .
أمر الوالي بطرحه في النار، فساقه الجنود إلي النار وألقوه فيها وهو يقول : " جزنا في النار والرب أخرجنا إلي الراحةِ " ، يارب كما كنت
مع الثلاثة فتية القديسين كن معي أنا الصغير المسكين لتمجد إسمك ويعرف الجميع أنك أنت الإله الحقيقي وليس إله سواك ، فلم تؤثر فيه النار
حتى ولا على ثيابه واستمر هكذا في النار لمدة ثلاث ساعات يتجول فيها كأنه يتمشى في بستان وهو يسبح الله ويشكر إسمه القدوس .
لما رأي الشعب هذه المعجزة صرخوا : لا إله إلا يسوع الناصري ، نحن نؤمن بإله القديس كيرلس . وآمن كثيرون بالرب يسوع وتقدموا للشهادةِ ،
فخاف الوالي واغتاظ جداً كيف يتحداه طفلاً صغيراً ، فأمر أن يُلقى في بئرٍ عميقة مليئة بالحشرات السامة ، فلما ألقوا القديس في هذه البئر هربت كل
الحشرات إلي جحورها وكان يصلي إلي الله الذي وقف معه ولم يخذله أمام الوالي ومكث هكذا إلي اليوم الثالث فأرسل الوالي جنوده ليطمئنوا هل مات
القديس أم مازال حياً، ولما نادى عليه الجنود رد عليهم قائلاً أشكر إلهي الذي وقف معي ونجاني وحفظني سالماً .
أنزلوا له حبلاً تعلق به القديس وخرج من البئر سالماً معافى ، علم الوالي بذلك فبدل أن يؤمن تقسي قلبه مثل قلب فرعون ، فأمر أن تُوضع
مسامير محماة في مواضع كثيرة من جسده ففعلوا به ذلك وكان القديس يقدم الشكر لله ويطلب منه المعونة ، فأرسل الرب ملاكه ولمس جسد القديس
فشُفى لوقته حتى تعجب الجمع ومجدوا الله الذي يقف مع الضعيف حتى يستجيب القوي ..
إحتار الوالي في أمر هذا القديس فأمر أن يُربط في جذع شجرةٍ ويُضرب بأعصاب البقر والسياط وكان الرب يقويه وينقذه من هذه الآلام ، أخيراً أمر الوالي بضربه بالحراب .
أخذه الجند خارج المدينة فطلب القديس منهم أن يُمهلوه لكي يصلي وإتجه إلي الشرق وصلى كثيراً من أجل العالم ومن أجل الكنيسة ومن
أجل أبيه ومن أجل الجنود الذين إشتركوا في تعذيبه الذي يعتبر أنهم هم الذين قربوا حياته إلي الأبدية لكي يغفر لهم الرب ويتحنن عليهم بالتوبة
والرجوع إليه وأن يجعل الإيمان يعم العالم .
وكان القديس فرحاً مبتهجاً لأنه قد أكمل جهاده ومضي ليأخذ الإكليل الذي وعده به الرب يسوع، وكان والد القديس حاضراً وهو ينظر إليه
ويتعجب من أين له هذه القوة وكيف يتحمل هذه الآلام، فتقدم إليه وقال له يكفيك يا إبني عناد واسمع كلامي وكفى من الآلام والأتعاب وارجع إلي
الآلهة وأنا أتغاضى عن كل تصرفاتك وتمردك على الآلهة وعلىَّ أنا أبوك ولا تكن إبن عاق يُذكر إسمه باللعنةِ علي كل لسان ، فقال له القديس
: يا أبي إنني أصلي لأجلك لكي يشفق الله عليك ويردك إلي حظيرة المسيح ولا يحرمك مما أعطاني وأصلي أيضاً من أجلك أن يسامحك الرب
يسوع بما فعلت معي .
نظر القديس للجنود وقال لهم : تمموا ما أُمرتم به ، فتقدم أحد الجنود وطعن القديس بالحربةِ فسلم الروح بيد الرب يسوع وحملتها
الملائكة إلي الأحضان الأبوية وأكمل جهاده بسلام ، وسمع الشعب صوت ترتيل يدوي في السماء لأن روح الشهيد كانت تحملها الملائكة بالتسبيح ،
ونال إكليل الشهادة وعيد مع الشهداء والقديسين .
وقد أجري الرب من جسده آيات كثيرة من شفاء المرضى وإخراج الشياطين وآمن كثيرون من الوثنيين ، أما والد القديس فكان ينظر هذا كله
ويتعجب لكنه لم يؤمن ورفض أخذ جسد القديس ليدفنه ، فتقدم أحد المؤمنين وأخذ الجسد وكفنه ودفنه بإكرامٍ جزيل .. بركة هذا القديس وصلواته
تكون معنا وليعيننا الرب كما أعانه ويكمل جهادنا بسلام ، ويُسمعنا الصوت المُفرح : " تعالوا إلي يا مباركي أبي رثوا الملك المُعد لكم منذ إنشاء العالم " .