أنا حـــر - لنيافة الانبا موسى

 

كثيراً ما نسمع هذه الصيحة من شاب يقول: أنا حر! وإذا ما سألناه ما هو مفهوم الحرية لديك؟ ربما تعثر فى الإجابة.

لا توجد حرية مطلقة! بل أن الإنسان إذا أعطى حرية مطلقة، يصاب سريعاً بالتفكك، وتتفسخ شخصيته! الحرية دائماً بناءة ومفرحة، ولكنها حينما تتحول إلى "الانفلات" أو "تحلل"... تصير هدامة ومدمرة.

ونحن لا نقول ذلك من منطلق كوننا رجال دين! ولكن لأن الخبرة الحياتية، والممارسة اليومية، كلاهما يؤكد هذه الحقيقة: الحرية يجب أن تكون مسئولة وملتزمة. والإنسان يسر بين حدين: الحرية، والانضباط. فإذا ما أعطيناه جرعات أكثر من الحرية تفكك وضاع، وإذا ما أعطيناه جرعات أكثر من الضبط قمع ومسخت شخصيته!
أين الحرية المطلقة؟

نعم... أين هذه؟ من قال أن الإنسان حر حرية مطلقة؟ إن حياتنا مليئة بالضوابط. وهذه الضوابط هى صمام أمن حريتنا.

هل نطلق العنان لغريزة الطعام، فنأكل دون تفكير فى نوع الشئ المقدم لنا، ومدى صلاحيته، وتاريخ فساده، وهل هو يخصنا أم يخص غيرنا... الخ؟

وهل نطلق العنان لغريزة حب الاستطلاع، فنفقد اتزان عقولنا، ونرمى بأنفسنا فى التهلكة، أو نفتح أدراج أو خطابات أو أوراق أصدقائنا، بدافع حر الاستطلاع؟

وهل نطلق العنان لحب الاقتناء لدينا، فنسرق أو نتخلى عن مبادئ أساسية، بدونها لا تستقيم الحياة، ولا يبنى المجتمع؟

لا توجد حرية مطلقة فى هذا الكون، بل لكل حرية ما يقابلها من مسئولية والتزام وضوابط.

هل هى حرية؟


أما تلك الحرية التى يتشدق بها الغرب، فهى عين العبودية. نعم هو حر فى أن يلبس أو يأكل أو يعمل أو يكسب... لكن هناك ضوابط: "حريتك تنتهى عندما تؤذى غيرك!"... "كن أميناً فى دفع الضرائب"... "التزم بالقانون"... لكن حرية ممارسة الجنس مثلاً، إلى أين ذهبت بالشباب الغربى؟! إلى شيوعية الزواج؟ إلى الشذوذ؟ إلى تكرار الزواج والطلاق دون استقرار للأسرة؟ ألم نقرأ عن مدرسة كاملة وضعت رهن التحقيق أمام شاشات التليفزيون، بسبب انحراف رهيب فى الجميع دون استثناء؟! مديرون ومدرسات ومدرسون وطلبة وطالبات فى رهيبة؟ هل هو ضيق أفق الدين، أم أن الدين يحاول أن يسمو بنا وبغرائزنا، لأن مجرد الخضوع والخنوع لها هو بعينه العبودية... "كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية؟" (يوحنا 34:8).
وها نحن نرى ثمرة انفلات الغرب وتحلله، فالأسرة فى سبيل الاندثار، ولا أحد مستعد أن يكون له طفل يعطيه من حبه وحنانه، لدرجة أنهم يغلقون مدارس الأطفال بالجملة هناك . إنها الحرية المزيفة التى هى الأنانية الكاملة! وعبودية الذات والشهوات! وعدم القدرة على الحب والعطاء.


الحرية الملتزمة :


من هنا نقول أن المطلوب هو اتزان حقيقى بين الحرية والضوابط... مزيج يصلح للنمو الإنسانى على مستوى الفرد، والأسرة، والجماعة. فلا نسقط صرعى العبودية للإيحاءات النفسية والغريزية الكامنة فينا، بل نتسامى بها فى اتجاه الفكر الراجح والروح المقدسة.
ولعل كنستنا تضع ضوابط مباركة لحياتنا، حتى لا نعيش نهباً لنفسياتنا، أو شهواتنا، لذلك رسمت لنا أموراً مثل:
1- القانون الروحى :

أى أن يكون لكل منا قانون حياة يومية روحية: من صلوات بالأجبية، أو صلوات سهمية ننادى فيها: "ياربى يسوع المسيح ارحمنى"، أو صلوات جماعية فى القداس الإلهى، مع تناول واعتراف، واجتماعات مشبعة وقراءات... فهذه جميعها "وسائط نعمة"... أى أننا من خلالها نحصل على نعم روحية، كالغفران والنمو والفضائل... أضف إلى ذلك الصوم وفترات مراجعة النفس والخلوات الروحية... الخ.

2- الأب الروحى :

أى أن يكون لكل منا الأب الروحى الذى يوجه حياته بالروح القدس، من خلال سر التوبة وممارسة الاعتراف الأمين. وفى الاعتراف - كما يعلمنا قداسة البابا - نأخذِ حلاً (بكسر الحاء) وحلا (بفتحها)... الحل: أى غفران الخطايا، والحل: أى الإرشاد فى الطريق.

3- الوسط الروحى :

فالإنسان مخلوق اجتماعى، ومن هنا كان لابد من بيئة مقدسة ينمو فيها وينضج، هذه البيئة متوفرة جداً فى الجو الكنسى، حيث يمارس الشباب أنشطة روحية واجتماعية وفنية وثقافية، تمهيداً لاندماجهم فى المجتمع، ليكون لهم عطاؤهم كمواطنين صالحين، شهادة للرب يسوع العامل فيهم، إذ ينشرون الحب، ويقدمون الخدمة، ويقومون بالواجب.


إذن، فلا تتضايق يا أخى الشاب حين تجد ضوابط فى البيت، والمدرسة، والكلية، وحتى الكنيسة، والمجتمع، فهذه كلها لكى تصل إلى شخصية متوازنة متكاملة، فيها الحرية التى تنمى، والالتزام الذى يحفظ. والرب معك.

"بِعَدْلِكَ نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذْنَكَ وَخَلِّصْنِي" (سفر المزامير 71: 2)