مجالات الشهادة فى حياة الخادم - لنيافة الانبا موسى

 

 كان القديس اغناطيوس حامل الإله، وأسقف إنطاكية يقول لأولاده كثيراً: "لا أعتقد أننى أحب سيدنا يسوع المسيح دون أن يسفك دمى لأجله". وكتب قبل استشهاده لمسيحى روما رسالة قال فيها: "أطلب إليكم ألا تظهروا لى عطفاً فى غير أوانه، بل اسمحوا لى أن أكون طعاماً للوحوش الضارية كى بواسطتها ابلغ إلى الله. أننى خبز الله فاتركونى أطحن بأنياب الوحوش لتصير قبراً لى ولا تترك من جسدى شيئاً حتى لا اتعب أحداً فى موتى فعندما لا يعد العالم يرانى أكون بالحقيقة قد صرت تلميذاً للمسيح.. صلوا لأجلى حتى أعد بهذه الطريقة لأصير ذبيحة لله".

 

 

هكذا قابل آباؤنا الموت، وهكذا قدموا الشهادة حية ومحيية. ونحن حين نتأمل حياتهم المطلوبة نشعر بكثير من الخزى ونتساءل:

 "هل من الممكن أن نصير شهداء؟"

وهنا يجيبنا القديس يوحنا ذهبى الفم: "هل تظن أن الصلب على خشبة فقط هو طريق الشهادة؟ لو كان الأمر كذلك لحرم أيوب من إكليله، لكنه تألم أكثر من شهداء كثيرين، لقد قاس الآلام من كل جانب:

 من جهة ممتلكاته وأولاده وشخصه وزوجته وأصدقائه وأعدائه وحتى خدمته لأجل هذا أقول أن أيوب كان شهيداً".

 

وارجوا أن أضع أمامك يا رفيقى الشاب بعض مواقف على طريق الشهادة لنمتحن أنفسنا معاً أمامها:

أولاً: أشهد للمسيح فى حياتك الخاصة :

 

 قف يا أخى الشاب أمام جسدك وحروبه المتعددة موقف الشهيد فحين تحرمه من لذة الخطية بفرح، وحين تمنعه من لذة الطعام بفرح، وحين تقمعه بفرح فيسهر ويصلى، وحين تستعبده بفرح فيسجد إلى الأرض مرات كثيرة، ويرفع اليدين إلى السماء مرات كثيرة ويقرع الصدر بندم الخطاة الراجعين إلى بيت الآب. حين تحيا هذا كله فأنت فى طريق الشهداء. لهذا يوصينا الرسول قائلاً: "أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 1:12)، "لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله" (1كو 20:6).

 

الشاب الذى يضع نصب عينيه شعار الرسول بولس: "الجسد ليس للزنا بل للرب والرب للجسد" (1كو 13:6)، ويحيا فى روح التوبة الصادقة والطلب المستمر للنعمة كل يوم، يتحول إلى هيكل للروح القدس ويتقدس جسده وحواسه بنقاوة مباركة. ولكن هذه الحالة هى رهن الأمانة والاجتهاد والتدقيق، كما أنها رهن مواقف معينة نشهد فيها ضد الجسد وشهواته سواء فى حياتنا السرية أو العلنية.

 

نحن أحياناً نرجع فى الصيف مجهدين من الخدمة فى النادى لا نكاد نتمكن من الوقوف للصلاة، وفى أيام الصوم نهرب من ألام الجوع والعطش، بل كثيراً ما نتمرد على فكرة الصوم ومفعوله كذبيحة حب مطهرة، ولا نرضى ان نجهد أنفسنا فى مطانيات أو قرع للصدر.. فلنبدأ وقفتنا أمام الجسد لنقدمه ذبيحة مقدسة لله.

 

الرسول بطرس يضع أمامنا طريقاً للطهارة إذ يقول: "فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد تسلحوا أنتم أيضاً بهذه النية، فإن من تألم بالجسد كف عن الخطيئة" (1بط 1:4).

 

فنضع أمامنا صورة للرب المصلوب، ولنقدم أجسادنا مذبوحة على صليب المحبة ونية الطهارة.

 

ثانياً: أشهد للمسيح أمام أصدقائك :

 

معروف أن شبابنا بالمرحلة الثانوية يعانى ضغوطاً كثيرة من الجو المحيط به فى المدرسة والشارع وبالأكثر من الجماعة التى ارتبط بها، لهذا نرى المراهق يخضع بسرعة لتأثير الجماعة واتجاهاتها بطريقة عمياء خصوصاً إذا كان شاعراً بنوع من النقص بسبب عيب خلقى أو اجتماعى أو نفسى أو عملى. وهكذا تراه يستكمل عجزه ببعض السطحيات التافهة أما فى طريق النجاسة والاستهتار أو فى طريق التقليد لغيره من الشبان المنطلقين فى الخطيئة إذ أن شخصياتهم تستهويه، فيرتبط بعادات قد تتأصل فيه وتدمر حياته، كالعادات الشهوانية والتدخين والسلوك المنحرف فى الطرقات وأسلوب تربية الشعر وارتداء الثياب.. الخ. وحينما يبدأ الشاب طريق التوبة يصطدم للفور بهذه الجماعة وتلك الاتجاهات المنحرفة، ويجد مشقة كبيرة فى البداية من نحو الشهادة للطريق الجديد أمام أصدقائه. ولكن هذا الامتحان العسير إذا اجتازه الشاب بنجاح وإصرار على طريق المسيح، تعقبه بركات غامرة سواء فى مجال النصرة على الخطيئة أو السلام الداخلى أو النمو الروحى فى شخصية متكاملة نفسياً واجتماعياً وروحياً.

 

أمام الشاب المتردد فيكون جباناً أمام أصدقائه، ونيته المتقهقرة مهيأة دائماً للهرب، لذلك فهو يفزع من نقد زملائه واستهزائهم به، ويتحرج من الإفصاح عن نواياه الجديدة، بل كثيراً ما يجامل على حساب طريق المسيح. هذا الشاب سيرجع حتماً إلى الخلف ما لم يحسم أموره ويحدد معالم شخصيته المسيحية وطريقه الجديد فى نوع من الشهادة الثابتة المحتملة والواثقة من أمجاد المسيح. كم يحتاج أصدقاؤنا البعيدين عن المسيح إلى نماذج قوية للحياة الغالبة والثابتة كم نحتاج أن نحيا كلمات معلمنا يوحنا الرسول "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير" (1يو 14:2)، لماذا نهرب من الشهادة أمام أصدقائنا المنحرفين؟ لماذا اعتذر بمشغوليتى حين ادعى إلى سهره لا تمجد الله ولا اشهد للمسيح بوضوح؟ ولماذا أتهرب فى خجل من فيلم مثير يعرضه التليفزيون ولا أعلن فكر الله من جهة هذا الأمر؟ ومتى نشهد بجرأة أصحاب الحق والسالكين فى النور؟

 

ثالثاً: أشهد للمسيح أمام أولاد العالم :

 

 فى البداية يلزمنى أن اشهد للمسيح أمام الجماعة التى كنت ارتبط بها فى أرض الخطيئة ولكن فى الطريق نتقابل كل يوم مع أناس ذوى مبادئ مختلفة، بل أن المبادئ نفسها اهتزت بعنف فى ما لم القرن العشرين. لقد اختلط كل شئ وذابت القيم الأخلاقية والدينية أمام طوفان الاعتداء الإنسانى والتحرر المتطرف والمادية والإباحية والإلحاد. ولقد أدرك الرسول بالروح ما سيحدث فى هذه الأيام فحذرنا قائلاً: "سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل بحسب شهواتهم خاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم يصرفون مسامعهم عن الحق" (2تس 43:7). "فلا يسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببطل ذمتهم، إذ هم مظلموا الفكر، ومتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم بغلاظة قلوبهم، الذين هم إذ فقدوا الحس اسلموا أنفسهم للدعارة ليعلموا هل نجاسة فى الطمع وأما انتم فلم تتعلموا المسيح هكذا" (أف 17:4-19)، "فلا تكونوا شركاءهم.. اسلكوا كأولاد نور.." (أف 7:5،8).

 

     إذن فليس جديد تحت السماء، وكل انحرافات هذا العالم ومبادئهم الخاطئة معروفة من قبل فى علم الله. وحيثما كثرت الخطيئة ازدادت النعمة جداً (رو 20:5) أما الشباب الذى يتعلل بعلل الخطايا مع الناس فاعلى الإثم (مز 4:140)، فيحتاج إلى وقفة صدق أمام ضميره وأمام الله وأمام تعليمات الكلمة.

 

     هنا الشهادة وهنا صبر القديسين، كان (لوط) البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوماً فيوماً نفسه الباره بالأفعال الأثيمة، ولنثق من النصرة إذ يستطرد الرسول قائلاً: "ويعلم الرب إن ينقذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الاثمة إلى يوم الدين معاقبين" (2بط 8:2،9).

 

     فلنقف مواقف الشهادة أمام الانحرافات التى تسود العالم، ولا نشترك فى أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحرى نوبخها، فلا نختلس مع المختلسين،ولا نهمل مع المهملين، ولا نهادن الخطأ فى أى موقع بل ننبه اخوتنا فى حب، لا فى تزمت وكبرياء، ولا فى سلبية. وانطواء وما أكثر مواقف الشهادة فى التعامل مع الناس ذوى الاتجاهات المنحرفة، فليكن شعارنا قول الرسول "جميع الذين يريدون أن يعيشوا فى التقوى فى المسيح يسوع يضطهدون" (2تى 12:3). فلا نندمج أذن فى عالم شرير وزملاء منحرفين ولا نهادنهم على أخطائهم بل نشهد للحق مهما كانت الخسارة.

 

رابعاً: أشهد للمسيح أمام الجميع :

 

نحتاج كأولاد للمسيح إلى دراسة واعية لحقائق الإيمان المسيحي خصوصاً فى موضوعات : الثالوث القدوس - ضرورة التجسد - فكرة الفداء - لثبات صلب المسيح - قيامة الرب - صحة الكتاب المقدس وهكذا. ويجب على الشباب المسيحي أن يستوعب هذه الموضوعات ليكون مستعداً لمجاوبة من يسأله بوداعة وخوف بعنصرية أو تحزب أو خصام.

 

فأشهد للمسيح أمام اخوتك فى حياته المقدسة ووداعتك وحبك وخدمتك الباذلة، وبكلماتك المشحونة وداعة وهدوءا. لا تجادل فى مناقشات عقيمة تسبب الخصومات بل أجب على هذه الأسئلة التى تقدم إليك فى روح الاستطلاع الهادئ والهادف، لا تتحصل حول أخوتك من دينك، بل انسجم فى حب وروح جماعية مع اخوتك فى الديانات الأخرى، "ليضئ نوركم قدام الناس" (مت 16:5).

 

خامساً: أشهد للمسيح فى خدمتك :

 

وهذا مجال أخير للشهادة فحين نتأمل حياة الرب يسوع وخدمته، ثم حياة تلاميذه الرسل وأباء الكنيسة، نعرف أن منهم من باع نفسه عبداً ليتمكن من دخول مدينة ما، ومنهم من غير معالم شخصيته ليدخل مدينة أخرى. وليس مثل الرسول بولس بعيداً عنا حين نقرأ انه جال بين القارات المختلفة يؤسس عدداً ضخماً من الكنائس ويسعى وراء النفوس فى حب ودموع وفى أتعاب وأسهار وضربات وسجون وميتات وجلدات ورجم، فى أخطار فى البحر والبرية وجوع وعطش وبرد وعرى.

 

حين نقرأ هذه القائمة الجبارة من الأم الخدمة نعرف أننا لم نصر بعد خداماً. فالخادم الحقيقى قد جهز قلبه للألم وأعد نفسه لدفع ضريبة الخدمة، وقد امتلاء فرحاً بهذه الآلام بسبب المجد الذى عجبها ويعقبها.

 

هل نبذل دمائنا لأجل الخدمة. وهل نعطى الرب من أوقاتنا ما نحن فى حاجة إليه. ومن أموالنا ما لا نستطيع الاستغناء عنه ومن جهدنا رغم قلته وضعفه؟ هنا الشهادة فالخادم الذى يكتفى برفاهية الخدمة ومظهريتها وأمجادها يجب أن يقف أمام نفسه ليقدمها مطوبة ومذبوحة حباً.

 

فليعطنا الرب أن نبذل أنفسنا فى مجالات الشهادة المختلفة فيشهد لنا الروح القدس أننا شهداء بلا دماء.

"بِعَدْلِكَ نَجِّنِي وَأَنْقِذْنِي. أَمِلْ إِلَيَّ أُذْنَكَ وَخَلِّصْنِي" (سفر المزامير 71: 2)